04-03-2022
مازال أحمد الأبنودي، يُمثل علامة استفهام في تاريخ الصعيد، فالشاب المناضل، قاد موقعتين حربيتين نهرية وبرية، وكان مثل "الزيبق"، ما كاد يظهر حتى يختفي، فيما دوّن أهالي أبنود بقنا أسطورته في مسجد يُسمى بلقبه أحمد العزب. بدوره ينقلنا الباحث طه حسين الجوهري في رسالته الأكاديمية عن عالم الصعيد منذ ٢٢٣ سنة، زمن الحملة الفرنسية، حيث يؤكد أن القبائل العربية في الصعيد كانت تنقسم لنوعين، نوع استقر في بعض القرى واشتغل بالزراعة، ونوع آخر أُطلق عليه العُربان، والذي ظل يعيش حياة الترحال والرعي والعيش بالقرب من الأماكن الصحراوية، وهؤلاء ﴿العُربان وحدهم هم الذين يسهل عليهم دون غيرهم اجتياز الفلوات الرملية؛ نظراً لمعرفتهم بطرق الصحراء ودروبها، ومسالكها، ويلعب العُربان دوراً هاما في وصل صحراوات مصر بواديها، ولهم وحدهم الخبرة والدراية والقدرة على حراسة سكة الحجاز من قنا القصير، وأيضاً نقل التجارة السودانية وخفارة درب الأربعين، الموصل بين دارفور وأسيوط فمن الحكمة الاحتفاظ بهم؛ للإفادة من المزايا المتوفرة فيهم، والتي لا يجاريهم فيها أحد﴾. ويؤكد أن محافظة قنا كانت صلاتها بأهل الحجاز قديمة، فمنذ العصر الفاطمي، سكن العلويون قنا ونجوعها وقراها، واتخذ أشراف الحجاز قنا مسكنا. أما العربان فقد لعبوا دوراً كبيراً في تنفيذ خطة الجيلاني المغربي الذي قاد جيشا من الحجازيين وشمال إفريقيا، وكذلك أهل اليمن؛ لمناصرة المقاومة الشعبية في الصعيد، حيث كانت خطة الجيلاني تقوم على سياسة حرب العصابات والظهور المفاجئ في أماكن مختلفة، ثم الاختفاء السريع، ثم الظهور مرة أخري أمام العدو في أماكن غير متوقعة، مثلما حدث في أبنود وبير عنبر، وهي الخطة التي اتخذتها المقاومة الشعبية في الصعيد منهجا ، مثل شخصية أحمد الأبنودي. وكثيراً ما أزعج هؤلاء العُربان جیش الحملة الفرنسية على مصر، حتى أن نابليون، أوكل لقتالهم فرقة من الهجانة، كل هجين فيها يحمل رجلين، وكان يرى ضرورة استخدام الشدة والحزم لكبح جماح أشرار العُربان الذين اعتصموا بالصحراء، وقد نجح الفرنسيون في وقف غارات العُربان وكف أذاهم، ولقد شارك أبناء الصعيد أطفالاً ونساءً ورجالاً في هذه المقاومة. في الصعيد، حمل السلاح ضد الفرنسيين كل من شب على قدميه، الرجال والنساء والأطفال خرجوا من ديارهم وحقولهم متعاونين كتلةً واحدةً وقلباً واحداً، مما شكل خطراً حقيقياً على الفرنسيين، وفي ذلك يقول الجنرال دافو:"إننا نتعرض لأخطار كثيرة كلما أوغلنا في بلاد يحمل جميع أهلها السلاح"، ومما هو جدير بالذكر أن النساء والأطفال من الرجال خاضوا غمار المعارك، وأدركوا أهمية دورهم في النضال، فأبوا إلا أن يُسهموا في هذه المهمة، وفي هذا السياق أيضا يصف الجنرال بليار موقفه من حركة المقاومة الشعبية، قائلا:"رأينا النساء ينشدن أناشيد الحرب ويحثون التراب في وجوهنا"، وكما يقول صاحب كتاب النضال الشعبي: "والشيء الجديد الذي يجب أن تُسلط عليه الأضواء، هو قيام المصريين بدورٍ كبيرٍ في المقاومة، ومعاونتهم الصادقة للمماليك، لا حُباً في المماليك ولا ميلاً إليهم، إنما حُباً لبلدهم؛ رغبةً في صيانتها من عبث الفرنسيين". ويوضح طه حسين الجوهري أن وثائق الحملة الفرنسية أكدت أن شعب الصعيد قد دافع بقوة عن حريته﴾. ونستدل مما تقدم أن أهالي الصعيد لم يتحملوا عبئ المقاومة فقط وإنما كان لهم دور في استمرار المماليك بما كان يقدموه لهم من مساعدات عديدة ومؤثرة لولاها كان المماليك سيكونون في طي النسيان منذ البداية، وقد أشار الرافعي إلى ذلك بقوله "لم يفكر مراد بك في مقاومة الجيش الفرنسي مقاومة جديه، بل معظم ما لقي الفرنسيون في الصعيد إنما نالهم من الأهالي الذين شدوا أزر المماليك في مقاومة الجيش الفرنسي، ولولا هذا التأييد وتلك المؤازرة لما سمع للماليك صوت ولا انبعث كذا لهم حركة بعد هزيمة امبابه". ويضيف لا نستطيع أن نجد تفسيرًا لمساندة أهالي الصعيد للمماليك سوى أنهم كانوا يملكون حسًا وطنيًا ودرجة عالية من الأصالة والوعي، وإحساسهم بأن الخطر الخارجي أكبر وأفدح من كل ما يعانوه في الداخل، وأن مقاومة هذا العدو الأجنبي ودحره تحتل الأولوية في قائمة الواجبات الوطنية، بل لم يتردد الشعب في تمني النصر لمضطهديه ضد غزاته الأجانب. كان ذلك رغم الكُره الشديد الذي يكنه الشعب لهم بسبب مظالمهم، ولقد بلغت الروح المعنوية للجنود الفرنسيين أدني درجاتها بعد قدوم الجيلاني، وبعد المعارك العنيفة التي خاضها معهم. ويُلخص المؤرخون ما حدث للروح المعنوية للجنود الفرنسيين خاصة بعد موقعة "أبنود النيلية"، حيث كانت الآثار المعنوية التي ترتبت على هذه الهزيمة النكراء كبيرة جدا وشديدة المفعول على نفسية الجنود الفرنسيين ومستقبل الحملة ككل؛ لأنها ألمت على حين بجنود الحملة على حين غرة. وقد أُثر عن نابليون قوله، في مذكراته بجزيرة سانت هيلين بعدما حصر العدد الإجمالي للقتلى:"لقد كانت هاته أكبر خسارة مُني بها الجيش في هذه الحملة، هذه الكارثة التي ستبقى ذكراها عالقة لزمن طويل، أثرت بشكل قوي على الجنود". وتحول أحمد العزب الأبنودي لأسطورة حقيقية سواء في الكتب التاريخية أو على ألسنة الفرنسيين، فهو مثل "الزيبق" الذي كان يختفي ليظهر فجأة. ويؤكد أهالي أبنود أن أحمد الأبنودي كان من رجال الدين، والذي يتواجد مسجده حتى الآن في القرية،بل إن معركة أبنود كتب عنها كثيرًا الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، مُشيدا بنضال أجداده الذين استمروا لعدة أيام يقاتلون الفرنسيين دون استسلام، رغم تفوق الأسلحة الحديثة للفرنسيين. تجدد القتال في بيوت وطرقات أبنود من شارع إلي شارع ومن بيت إلي بيت، ولما يأس الفرنسيون من التغلب عليهم، أضرموا النيران في منازل القرية كلها فأصبحت البلدة شُعلة من الجحيم، وصعد اللهب إلي عنان السماء، وتحولت القرية إلي أكوام وخرائب، وقاموا الجنرال بليار بتشكيل قوتين واحدة ناحية القصر، والأخرى تتجه صوب القرية، وقد أطلق الأهالي النار من كل حدب وصوب، وقد دخل الجنود الفرنسيون في السفينة التي كانت متواجدة في القرية، وقتلوا كل من وجد فيها من العرب. وحاول الفرنسيون دخول المسجد وقاموا بإطلاق نيرانهم، وأضرموا النيران في المسجد وقاسى أبناء أبنود من النيران في المسجد وأحرقت النيران عشرين منزلا، وقد أصبحت القرية أكواما من الأطلال وأصبحت الشوارع كتلة من اللهب. بين قصر الكاشف ونهر النيل، دارت معارك يقودها الجيلانى وأحمد الأبنودي، وأسر الفرنسيون عددا هائلا من أبناء المقاومة من مصريين وتوانسة ومغاربة، فيما قررت المقاومة المصرية بعد هزيمة أبنود الاتجاه لقرية بقطر بقفط، حيث نجحت في إغراق سفينة نابليون بونابرت وتُدعي إيطاليا، وقد كان سماع نابليون بونابرت لهزيمته وهو في أسوار عكا بفلسطين، وقعا سيئا على نفسيته حتى أنه بكي من هول الصدمة، وقد غير أهالي قنا مسمى القرية من بقطر إلي البارود. وكانت محافظة قنا احتفلت مساء أمس بمرور ٢٢٣ سنة على موقعة البارود، فيما قامت وزارتي السياحة والآثار بتنظيم مهرجان دندرة للغناء والموسيقي وإقامة معرض للكتاب احتفاء بذكري موقعة البارود.
0